في ساعة العصاري عندما تدنو الشمس من المغيب ، و أرشف شاي الساعة الخامسة المعتاد في البلكونة و أشاهد غروب الشمس و حراك الناس في الطريق.
هذه الكوباية الممتلئة بالشاي الذي يحمل رائحة النعناع الأخضر و القرنفل ، تلك الرائحة التي تجذبني من غرفتي و تحملني حتى أكون ثاوياً أمامها أقدّم فروض الطاعة و الولاء ، و أتلمّسها بكل الرفق ، و أقبل حافتها الملساء ، و ينساب رحيقها الدافئ إلى فمي ، و عندها ينبت لي جناحان و أشعر أنني أحلــّـق فوق الأهرامات.
هذه الكوباية العجيبة تتملص و تتحرك و تتدحرج و تحاول القفز من البلكونة ، يبدو أنها تريد التخلص من حياتها ، فلقد تحملت حرارة الحياة و قسوتها ، و آن الوقت الذي يستطيع فيه كل شئ أن يعبّر عن رأيه و استياؤه ، و يستطيع كل شئ أن يتخلص من حياته حتى إن كان لا يملكها. تتسلل خلسة عندما أتركها و تتجه نحو الحافة و تنظر إلى الطريق المليئ بالمارة ، و تنظر مرة أخرى نحو المطبخ – موطنها الأصلي و مرتع شابها – ثم يسيل على جدارها بعض البخار المتكثف ، و تتجه مرة أخرى بفوهتها نحو الحافة و تترد في القفز ، ثم تعزم أمرها و تلقي بنفسها من الدور الرابع.!
لاحظتُ هذا الموقف و كان لا زال في الكوب نصفه ، و هذا ما أشعل النار بداخلي و زادني حـُـرقة و لهفة ، و حاولت بكل الطرق إنقاذها و منعها من فعلتها الشنيعة ، إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل و تمكنت من الهروب من بين يدي و الإنزلاق في الهواء لتبدأ رحلتها الإنتحارية نحو الأرض.
مر وقت طويل و لا زلت الكوباية تتأرجح في الهواء و تتقلب ذات اليمين و ذات الشمال و تسكب كل ما فيها على الطريق قبل أن تلقاه فاتحة فاهها الواسع و تصرخ صرختها الأخيرة ثم ترتطم بالأسفلت و تتهشم إلى قطع صغيرة تتوه وسط التراب و قطع أخرى أكبر لا زالت تحمل بقايا الشاي و النعناع الأخضر و القرنفل.
لا أدري كيف نزلتُ من الدور الرابع إلى أسفل البيت بهذه السرعة ، لكني وصلتُ إليها و خررتُ أمامها و حملتُ بقاياها و جالتُ الخواطر في نفسي و ذكرياتنا القديمة و لحظاتنا الجميلة و سهراتنا الطويلة ، و جاشت العاطفة بداخلي و انفجرتُ ببكاء ٍ يحمل كل ما في قلبي تجاهها. و جمعت قطع الزجاج قطعة قطعة في منديل أبيض و غلفتها في علبة بيضاء ، و في جنازة مهيبة شيعتُ زجاجها المتكسر إلى مثواه الأخير في صندوق القمامة.!!
حكمة اليوم : يهتمُ بكَ البعضُ أحياناً ، و يبكي عليكَ البعضُ أحياناً ، و البعضُ إذا لم يجدْ منكَ فائدة ً فإنه يتخلصُ منكَ في أقربِ صندوق ِ قمامة ! ، فلا تجعلْ نفسكَ عـُـرضة ً لهؤلاء.