لأسباب شخصية، ربما، يبهرني الاعتراف البسيط بارتكاب الشر مع تسميته كذلك، اللجوء إلى سلوك مع وصفه بالانحطاط بلا مواربة. يبهرني أن غريزة ما تفصح عن نفسها بلا أي محاولة للتبرير في الوعي ولا أي محاولة للتحايل على اللغة المسكونة بالأخلاق. الغضب طاقة عظيمة تفجر الصراحة وتهدر اللياقة والمجاملة والتغاضي.
أعتقد أن كل هؤلاء - اللغة والأخلاق واللياقة والمجاملة والتغاضي- كادوا أن يوقفوا الشاب الجزائري صاحب الفيديو الشهير عندما وصل إلى نقطة مهمة : "دلوقتي مع وصول التذكرة إلى 5000 دينار جزائري، اللي راح يروح السودان دول ...". يتوجب عليه هنا أن يصف وصفا غاضبا مخيفا وملوحا بالشر والانحطاط المرعب، هو لن يتراجع ولكنه تخفيفا سيعتذر عن تخليه عن التغاضي عما يعتقده من انحطاط بعض أشقائه:" يعني إخواتي الجزائريين ما يتضايقوش من هذه النقطة .. راح يروح حثالة المجتمع ! اللي ما يشتغلش، اللي أمه مش هاتبكي عليه!".
كان هذا الفيديو بالطبع قبل المباراة الفاصلة في السودان. التي أخذ "المصريون" فيها على حين غرة، في كرة القدم وفي الانحطاط. أعرب الكثيرون من المصريين على شاشات الفضائيات وفي الصحف عن أسفهم من أننا لم نتمكن من حشد انحطاطنا المقابل، "لم نحشد أبناء إمبابة وبولاق وشبرا"، "أرسلنا جمهورا مهذبا وطريا".
الشاب المصري الذي رد عليه أكد أن "حثالتهم" ليسوا شيئا مقارنة بـ"حثالتنا" ويبدو أن أمر الخمسة آلاف دينار جزائري قد استفزه فقال: "يابني إحنا عندنا ناس متسولين!". ربما يقصد لدينا مستوى خاص من الانحطاط - بحسب نفس التصنيف الطبقي الذي اعتمده الجزائري - لا يملك حتى هذه الدنانير. ولكن المشكلة أن الحكومة المصرية لم تدعم الانحطاط - ويلومها الكثيرون الآن بوضوح على ذلك- ولذلك لم يتمكن "المتسولون" من الذهاب إلى الخرطوم لمواجهة أقرانهم.
لا يبدو لي هذا التفسير كافيا. نحتاج الآن للتسليم أن "حثالتهم" أكثر انحطاطا وشراسة من "متسولينا" الذين لم يتمكنوا هنا سوى من كسر زجاج سيارة المنتخب الجزائري، وحتى هذه الواقعة مشكوك في أمرها. ولكن الواضح وضوح الشمس أن طاقة الغضب التي فجرت طاقات النخب الإعلامية والفنية والثقافية في الجانبين قد أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن "حثالتنا" الحقيقة هي التي تتقاضى عشرات ومئات الآلاف والملايين لكي تعبّر.
لقد كان الإعلام المصري دائما رائدا، في كل العصور والاستعمالات والأغراض. وعندما حان الوقت ظل أيضا رائدا ومبهرا، على الأقل بالنسبة لي، في اللجوء لصراحة الغضب التي تطفح بما في القلب بلا لياقة أو مجاملة أوتغاض، في "تسوله" المزيد والمزيد من الطاقة المبهرة للغضب من "الحثالة التقليدية" التي لا دنانير لديها لتذهب ولا منابر لديها لتعبّر، في تعبيره بدلا منهم وباسمهم عن الأسف لعدم التمكن من اللجوء للشر مع تسميته بذلك، واستبداله بالانحطاط مع وصفه بذلك،.
"إحنا عندنا فعلا ناس متسولين!"