قد يوحي ذلك أن المشكلة كانت بسيطة، أو أن حملة التضامن صادفت قرب انتهاء المشكلة وحلها على مسار آحر، ولكن لا شاهدا أفضل من هبة لينفي ذلك وليقول لنا أن التضامن معها بالفعل قلب المعادلة وأنهى أزمة 3 سنوات في أسبوع.
الصورة الأكثر دقة- كما يبدو لي- أن محاولات هبة المتواصلة وتمسكها الشديد والمدهش بحقها هو العامل الأساسي الذي أتاح أن تنتقل حملة تضامن من خانة أضعف الإيمان لتكون عاملا مساعدا في تغيير فعلي على الأرض.
هذه الصورة تدفعنا لألا نبالغ في قدرات وإمكانات حملات التضامن على الإنترنت أو في الإعلام، ولكنها تدفعنا أيضا لأن نعرف أنها ليست بلا تأثير، والتفاصيل قد تكون فيها ملاحظات جديرة بالتأمل لكل من يهتم بالإنترنت كمساحة للنشاط والتضامن والتشبيك بين المهتمين بمناصرة قضايا أو قيم مشتركة.
أولى هذه الملاحظات أن السعي على الأرض في مسارات مختلفة للمطالبة بالحق أو الاعتراض على مظلمة كان ضروريا لتحديد وجهة الحملة الإعلامية، التي لم تخرج كنداء في البرية بل حملت مطلبا محددا موجها إلى جهة محددة: حق مواطنة مصرية في العودة لبلدها ومسئولية الخارجية المصرية عن ذلك، بالإضافة لتحديد العقبات التي تعترض نيل هذا المطلب رسميا وتهدد كسب التعاطف مع القضية: نظام السعودية المستند للتقاليد الأسرية المحافظة التي لا تقبل استقلال البنت بحياتها.
ثانيا، هناك دور كبير لشجاعة هبة وقرارها بتحمل تبعات حملة تضامن إعلامية ستتعرض بسببها لاتهامات أخلاقية، وقرارها بخوض معركتها من زاوية حقوقية صارمة: حقي كمواطنة في العودة لبلدي، فقط لأنني أريد، كما كتبت في مدونتها. ورفضها التركيز على ظروف سيئة أو استثنائية لجلب التعاطف، رغم اضطرارها لذكر بعض التفاصيل تحت إلحاح الإعلام الذي يريد قصة أكثر إثارة وحيوية من قضية حقوقية تستند لحق قانوني مجمد في السياق الاجتماعي.
ثالثا، هناك الآلاف من شكاوى المصريين في الخارج يتململ الإعلام المؤسسي قبل النشر عنها. القاريء مل من هذه المظالم ولم يعد هناك ما يثيره في حالة بعينها بعدما تحول الأمر إلى مظلمة واحدة كبيرة لا تثير إلا الأسف على حال البلد وقيمة الإنسان فيه.
ما حدث إن الإعلام بالفعل تململ وتلكأ في نشر قضية هبة، إلا بعدما وجد في حملة الإعلام الشعبي- المدونات، فيس بوك، تويتر- قصة جذابة وجدلا مثارا بالفعل دوائره بدأت في الاتساع. وحضور ذلك واضح في عنوان مداخلة برنامج 90 دقيقة : تشتكي والدها عبر الفيس بوك وفي تفاصيل خبر المصري اليوم وفيديو موقعه.
رابعا، الإعلام الشعبي أكثر جرأة وحرية في إثارة القضايا التي تصطدم بالقيم التقليدية والأفكار السائدة متحررا من أجندات رأس المال أو معيار الجاذبية الجماهيرية التي تحدد خيارات الإعلام المؤسسي. ولكن هذا الأخير يمكنه متابعة الإعلام الشعبي والتعلل به أحيانا لإثارة مثل هذا النوع من القضايا، كما حدث في بدايات الاعتراف بوجود التحرش الجنسي.
خامسا، لا يمكن أبدا تجاهل أن الإعلام المؤسسي لا يزال صاحب التأثير الأكبر والقدرة الأكبر على طرح قضية على قطاعات أوسع من الرأي العام والضغط على المؤسسات الرسمية ومساءلتها. في قضية هبة كان لنشر المصري اليوم التاثير الأكبر في الضغط على أطراف القضية (الخارجية، السلطات السعودية، الإخوان المسلمين، وأسرة هبة) لكي يصل الأمر لاتفاق سريع وحل للمشكلة.
سادسا، تبعا للملاحظة الخامسة تبرز أهمية المساحات المخصصة في الإعلام المؤسسي لنقل أو عرض محتوى التدوين. فقد تكون هذه المساحات هي الجسور الأسرع لتفعيل حملة تضامن تبدأ في ساحة الصحافة الشعبية. وهو ما يمكن أن يكون مدخلا لإعادة النقاش حول التصلب في قضية الملكية الفكرية فيما يخص إعادة نشر محتوى من المدونات.
سابعا، ما يمكن قوله مختصرا "لا تحقرن من التضامن شيئا"، فما قدمه كل واحد ظانا أنه أضعف الإيمان كان جزءا من دائرة تتسع لتزيد من تأثير وقوة الحملة. حتى الذين كتبوا متشككين أو ومعترضين ساهموا في ذلك ووسط كثرتهم ازدادت الهالة على دائرة التضامن التي استفادت من النقاش والجدل لتبدو واضحة أكثر في خطابها وفي بلورة القضية بفضل كتابات مميزة وجريئة.
ثامنا، اتصال حملة التضامن بموضوعها يزيد من جديتها. كانت هبة في قلب حملة التضامن بشجاعة، رغم تبعات ذلك.
والتواصل معها أتاح لمتضامنين تقديم خدمات جانبية على الأرض كانت عظيمة الفائدة.
تاسعا، عندما أثارت حملة التضامن تغطية إعلامية نشطت جهات ومؤسسات كانت تتعامل مع الحالة باعتبارها صفحة في ملفاتها، ولكنها لم تعد كذلك بعد اقترابها من أن تكون قضية جدل عام.
التشبيك مع الجهات والمؤسسات ولكن عدم الاعتماد عليها بشكل كامل يساعد في تنشيط حركتها ومعاونتها. وفي قضية هبة، الجهات التي اهتمت بالأمر لفترات مختلفة بأقدار متفاوتة كانت تستعد للدخول على خط المعركة الإعلامية والقانونية التي نشطت من جديد لولا الانتهاء السريع للمشكلة.
عاشرا، في مثل هذه اللحظات تبرز أكثر أهمية وفاعلية كل الجهود التجميعية، سواء التي تهدف لتقوية تأثير التدوين مثل مجمع "العمرانية" الذي خصص واجهته طوال الحملة للتدوينات التي تناقش القضية، أو مجموعات الاهتمام المتعلقة بالأمر مثل مبادرة "كلنا ليلى"، التي شهدت مجموعتها البريدية النقاش والتحضير للحملة وساهم عدد كبير من أعضائها في الكتابة أو المساعدة بطرق مختلفة .
أخيرا، هذه اللحظة وغيرها تؤكد دائما على أهمية حركة 30 فبراير المباركة بكل أجنحتها المفتوحة والمنفتحة على كل المجموعات والمتقاطعة معها والمتغلغلة داخلها وداخل الإعلام المؤسسي والمجتمع المدني وكل شيء حي.