كبرق خاطف مرت "قضية هبة نجيب". الدهشة شملت الجميع: هؤلاء الذين تعجبوا مما فعلت واستنكروه، وأولئك الذين انبهروا بشجاعتها وساندوها.
ولكن الأكثر إدهاشا في رأيي، وما لا أود أن ينقضي أثر دهشته سريعا كالبرق بل أتمنى أن يظل كضوء مزعج مسلّط على الأعين المحدقة المستنكرة، هو تحديدا ما لخصته هبة في عنوان ما كتبته على مدونتها: "لماذا أريد العودة .. ببساطة لأنني أريد".
العنوان يحمل رسالة واضحة وقاطعة وجذرية لا تتوسل بظروف استثنائية سيئة ، بل تطلب الانحياز غير المشروط وهي تعلن أن هناك "فردا" يتمسك بفرديته التي تعلو على كل اعتبار آخر ويطالب بالتضامن معه في أن يحرر تلك الفردية ويحرر اختيارها باعتبارها شرطا أول للحياة غير قابل للتفاوض ولا يحتاج لمبرر .
مضمون الرسالة كان سبب الانقسام السريع بين أولئك الذين انحازوا لهبة وإعلانها عن نفسها كـ "فرد" وحقها في أن تكون كذلك، وبين هؤلاء الذين فكروا فيها كـ"ابنة" يجب أن نسمع رأي أبيها، أو فكروا فيها كـ"أنثى" يجب أن نتوجس من استقلالها بحياتها أو يجب أن نقلق عليها بأبوية ، أو ربما فكروا فيها كـ"مظلومة عادية" - مثلهم- تساءلوا مستنكرين لماذا تتذمرعلنا بينما يعانون هم ويعاني آخرون من مظالم أخرى- أشنع ربما- بينما تتمتع هي بحرية الحركة لكي تطالب بحقها أمام جهات مختلفة وبحرية الاتصال بالإنترنت لكي تطلب التضامن معها.
الأمر لا يتعلق بأن هؤلاء يدركون حقيقة ما لم يدركها أولئك، أو العكس، فالإنسان يوجد فردا كما يوجد ابنا وأخا وقاطنا بمنطقة ما محكوما بقوانينها وظروفها. ولكن يبدو لي أن الأمر متعلق بـ"الخيال". يمكن للإنسان أن يتخيل لنفسه أوصافا وأماكنا ومهاما أخرى، عقيدة أخرى وتدينا آخر، أهلا وأصدقاء آخرين، إلا كونه فردا وذاتا عاقلة مريدة. "الإرادة" ركن آخر، أن يتخيل الإنسان مصيرا لنفسه وهوية يختارها ثم يريدها ويتشبث بها. أولئك الذين انحازوا لحقها سريعا إنما انحازوا لأنفسهم ولحقهم في الفردية والخيال والإرادة على خلاف الواقع والمتاح الضيق. انحازوا لحق الصوت الواحد المنفرد أن يكون ما يريد، بينما انشغل الآخرون بتخيل حق الأصوات الأخرى في تقرير مصيرها.
الانحياز إلى "الفردية" والحق في الخيال وحرية الإرادة، لا علاقة له بإيمان مسبق بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان أو قيم الحداثة. بل على العكس، تثبت مثل هذه المواقف أن خيال وإرادة الأفراد والجماعات وخوضها الشجاع لمعارك من هذا النوع هو الذي يفتح الباب - إن كان هناك آخرون مستعدون لتكرار المعركة - لكي يتم إقرار الحقوق وكتابتها وتثبيتها بعد جدل وصراع وتفاوض اجتماعي. أو ليتم تفعيل الحقوق المجمدة والمسطورة نصا في الدساتير والقوانين بينما الكل مستعد لتجاهلها.
محاكمات قضايا التعذيب نشطت بعد شجاعة عماد الكبير في أن يعلن أنه تم انتهاك حقه كمتهم وتم الاعتداء عليه جنسيا وأنه يطالب بعقاب من انتهك حقه. ليخرج حق المتهم المجمد من أسر نظرة المجتمع التي تتغاضى عن كل الانتهاكات بحق "الأوباش المسجلين خطر" الذين يجب أن يعاملوا بقسوة لكي يرتدعوا. تشبث عماد الكبير بفكرة أرادها: "أنه فرد له حقوق حتى لو كان مجرما مدانا"، وكان ذلك خيالا وإرادة أخرجا القواعد القانونية المجمدة إلى العمل.
قضايا التحرش الجنسي، احتاجت لشجاعة نهى رشدي لكي تخرج من أسر نظرة المجتمع التي تدفع الفتاة لأن تخجل من نفسها لو تم التحرش بها. خيال وإرادة نهى دفعاها لكي تتجاهل السيناريوهات النمطية لمثل هذه المواقف وتتشبث بفكرة أن تسوق من تحرش بها إلى الشرطة لتضع النظام القانوني في موقف يبحث فيه عن نصوص تصلح لمحاكمة هذه الجريمة بينما لا ينص إلا على عقوبات لهتك العرض.
الحقوق والقوانين "الحية الفاعلة" ليست تلك التي يتم الاتفاق عليها في قاعات كليات الحقوق أو يقترحها المفكرون في مقالات، بل التي يخوض من أجلها الأفراد والجماعات الصراع والجدل بخيال وإرادة لتجاوز الواقع إلى غيره.
حالات عماد الكبير ونهى رشدي وهبة نجيب، كانت مشكلة فرد، وكان ممكنا أن يتحول كل منهم إلى "حالة متشابهة" وسط حالات: متهم يتم تعذيبه فيسكت، فتاة يتم التحرش بها فتسكت، فتاة تكره على اختيار مكان لحياتها لا تريده فتتكيف. ولكن كل منهم آمن بفرديته وحقه في أن يريد شيئا آخر. وبالإضافة إلى ذلك هذه الفردية التي جعلت من نفسها قضية عامة وخرجت إلى ساحة الجدل في المجتمع، لم تكن فردية وحيدة، بل كانت وسط جماعة وبعد معركتها فتحت الطريق إلى آخرين يريدون أن يسلكوا نفس الطريق.
من حسن حظنا أننا أبناء هذه اللحظة في التاريخ، حيث يتيح التواصل السهل للفرد أن يجد مساحات واسعة أمامه لكي يعمل خياله ويختار أن يكون شيئا آخر غير الذي يفرضه عليه المكان والأهل والمحيط الاجتماعي، بل ويختار أن يكون مع هؤلاء الأفراد أو هذه الجماعة أو تلك ويرتبط معهم بصلات مختلفة أو يطلب مساعدتهم ومساندتهم. عماد الكبير خاض معركته وسط قانويين وصحفيين ومدونين. ونهى رشدي كانت محور تضامن نساء لم يعرفنها ولا سمعن عنها قبلا ولكن فقط لأنها عبرت عنهن. والمتضامنون مع هبة نجيب إما كانوا من عرفوها من مدونتها أو من عرفوها على البعد وتواصلوا معها تضامنا مع حقها، بينما لم تلتق بمعظمهم وربما لن تلتقي.
هذه اللحظة مناسبة جدا لأن نسخر من هؤلاء الذي صدعونا بتأثير وسائل الاتصال الحديثة على التواصل والاجتماع الإنساني الحميم. في الواقع لم تفعل وسائل الاتصال هذه، على رٍأسها الانترنت بالطبع، إلا إنها أتاحت مساحات بديلة للأفراد لكي يجدوا فيها أقرانا لهم وروابط اجتماعية وجماعات اهتمام غير التي كانت متاحة وفق الظروف والإمكانات المحدودة. لا تؤثر هذه المساحات الجديدة إلا على الروابط الاجتماعية الهشة التي لا سند لها إلا الادعاء أو الإكراه. فبديلها يصبح بمرور الوقت أقوى وأقرب: أن تكون فردا ولكن ليس وحيدا.