ازاى تبحث عن مكان للمعنى




أنا أعتبر نفسي صحفيا محظوظا بقدر كبير، فالذين التقيهم دائما أثناء انتقالي من مكان إلى آخر في عالم الصحافة هم أشخاص استثنائيين. يساعدني في ذلك أنني لم أتنقل كثيرا في الحقيقة لأن وجود استثنائيين - بالمعنى الإيجابي- في وسط تسيطر عليه الرداءة الاستثنائية - واسألوا ميزو!- هو ما لا يمكنني تفسيره بأقل من عناية إلهية.
إحدى آيات ذلك أن كان أول من التقيت هو الأستاذ أسامة عفيفي، الذي أعتقد أنه لا يوجد كثيرون مثله لديهم ما يقولونه فيما يخص "فن الصحافة". ولذلك أجد - كلما تنقلت- شبابا وكهولا يخبرونني أنهم تلاميذ "الأستاذ أسامة" ويذكرونه بالخير، في الوقت الذي أتفرج فيه دائما على نماذج متوافرة من آخرين يتطاولون في الأعمدة على حواف الصفحات بينما هم خارج الورق يتوجسون ممن تبدو عليهم أمارات الموهبة ويحاولون بكل ما أوتوا من "فن السخافة" أن يحافظوا على مكانهم بإبقاء المساحة المحيطة بهم مستنقعا خالصا إلا من كل ما هو ضحل ولزج.
لذلك كان أيضا من حسن حظي عندما توجهت إلى "البديل" قبل عامين أن عرفني صديق إلى د.محمد السيد سعيد، أثناء رئاسته للتحرير، وكانت أول معرفتي الشخصية به، وكان أول معرفتي بـ"البديل"- رحمهما الله.
كنت أسمع من الأصدقاء الباحثين والحقوقيين عن دماثة "الدكتور محمد" التي لا ينافسها إلا مكانته كمفكر وباحث وكاتب، ولذلك توقعت ما لقيت من الترحيب والإنصات إلى أفكاري واقتراحاتي ولكن لم أتوقع منه، وهو يعتذر لي لأن المزيد من المكاتب ستتوفر قريبا في غرف أخرى، أن يخبرني في أريحية وبساطة أنه يمكنني أن أقوم بعملي من خلال غرفته نفسها، وحتى وصلة الإنترنت يمكن أن نتبادلها وقت الحاجة !
كان ذلك ملهما جدا والمرء يبدأ عمله متحمسا في جريدة يسارية تريد أن تقدم بديلا. وظللت قرابة أسبوعين تقريبا أجلس يوميا معه في مكتبه، ظن البعض ممن لا يعرفني أنني من قيادات الجريدة، وقبيل انتقالي السريع من الجريدة - قبل توقفها بفترة- علمت أنني كنت محسوبا على "الإدارة" بعد أن اشتعلت في "البديل" الحرب الصامتة بين الشلل المختلفة وتردت العلاقة بين الإدارة والتحرير وصولا إلى أزمة توقف الجريدة. وذلك كان جانبا واحدا من الهوة بين القيم التي كان من المفترض أن تقوم عليها التجربة وهي قيم حملها قسم من قادة التجربة بالفعل وبين ما انتهت إليه هذه التجربة. والجوانب الأخرى من الهوة أجدها في الكلام الذي يتردد دائما في الجلسات الخاصة لكن عند الكتابة والخطابة - للتاريخ والجمهور- تجد التجربة قد تحولت إلى كلمات زاهية وناصعة، وعداها العيب إلى التاريخ والزمن الرديء الذي لا مكان فيه لجريدة محترمة أو الجمهور الذي افتقد حس المقاومة فلم يدعم التجربة.
مع النسيان ولدواعي الاستعمال، تتحول التجارب - صحف، تجمعات سياسية، منظمات- إلى أوسمة على صدور شهدائها، وبعضهم يحتاجون ذلك بشدة، ولكني لا أظن أن د. محمد في حاجة لذلك. فلا يضيره أن نتحدث عن أن أسباب بنيوية داخل "البديل" التي رأس تحريرها أو "كفاية" التي كان من أبرز أعضاء لجنتها التنسيقية، كانت سبب انهيار هذه التجارب. فهو دائما كان ممن لا يخجلون من نقد مكانه السابق وتجاربه السابقة بعد أن يلزم نفسه بالمخاطرة وارتياد الأماكن الجديدة بدلا من الارتكان إلى أماكن دافئة يبررها بعض أقرانه بأنهم باحثون ومفكرون لا ناشطون أو صحفيون.
بدا لي دائما أن محمد السيد سعيد وعبد الوهاب المسيري يمثلان نموذجا واحدا رغم اختلافهما الفكري، فكلاهما كان يضع نفسه في مكان خارج التصنيفات السائدة، ولكنهما كانا متجاوزين لحالة آخرين يسمون أنفسهم كذلك لكي يكتفوا بالمراقبة ويبتعدوا عن أي التزام أوجهد أو تجمع، وفي الوقت نفسه لا يقدمون جديدا ولا أصيلا على مستوى الفكر. فالراحلان كانا من الأنشط في مجال التعامل النقدي مع الأفكار وفي الوقت نفسه الأكثر التزاما وجهدا وأكثر ميلا للحركة مع جماعة لكي تجد الفكرة مكانا لها على الأرض.
ارتبط باسم د.محمد السيد سعيد بوصف "يساري بين الليبراليين، ليبرالي بين اليساريين" إلا أنه بوضوح كان يساريا نقديا، ناقدا لليسار نفسه في المقام الأول، لكنه لم يتراجع عن خوض مغامرة تأسيس أول جريدة يسارية يومية. لا أعتقد أنه من السهل القول أن وجوده على رأس التجربة لم يكن موفقا لأنه كان مفكرا وباحثا أكثر منه صحفيا أو إداريا، ولا يمكنني الدفاع عن العكس. ما تركه محمد السيد سعيد من جهد فكري وبحثي ومكانه في قلوب أقرانه وتلاميذه وأبناء جيله وما بعده يكفي وزيادة لحفظ مكانه ومكانته، وما يمكن أن يكون مزعجا بشأن ذلك هو أن المزيد من الاستثنائيين يجربون ويرحلون وتخلد ذكراهم ولكن قبل رحليهم تنتهي أو تتجمد التجارب الجماعية وهي التي تنفع عموم الناس أكثر وتمكث في الأرض.
خرجت من عزاء الدكتور محمد في مسجد عمر مكرم الأربعاء الماضي بعد ما بدأت القاعة تزدحم وبدأ المرور يتعطل قليلا، ربما بسبب الوجود الكثيف للأمن ترقبا لوصول شخصيات هامة وفقا لتخمين سائق التاكسي الذي ركبته. سألني السائق: عزاء من؟ أجبته. فاستفسر: وماذا كان يعمل؟ وأنا أجيبه كنت زاهدا في بعض التفاصيل التي أعتقد أنها لا تعنيه- وإن كانت تعنيني جدا وكل مهتم بالسياسة والفكر السياسي - ولكني فكرت أنه لو كانت "البديل" - أو أي تجربة أخرى - نجحت في أن تبقى حية وارتبطت ببعض من قامت لتعبر عنهم كنت سأجيبه بحماس بوصف واحد سيعني له شيئا.
هذا الموضوع كتبته يوم ضمن تصنيف فأن اصبت فمن الله وحده و ان اخطات فمن نفسي و الشيطان . يمكنك نقل اي موضوع من المدونة بشرط ذكر المصدر و ذكر رابط الموضوع الاصلي للاتصال او الاستفسار عن اي موضوع من هنا.