بدا لي أدائي مبشرا أثناء الإحماء، بالنسبة لمن لم يلعب مباراة منذ أكثر من عشر سنوات تقريبا. وفي بداية اللعب كذلك، لم أكن سيئا جدا، أعتقد أن من راقبني كان يجب أن يقول أني كنت لاعبا جيدا لا يحتاج إلا بعض الوقت.
بعض الخفة والحماسة دفعاني لربع ساعة، بعدها بدأ رأسي يدوخ . طلبت من صديقي أن يحل محلي سريعا واتجهت بأقصى سرعة تسمح بها حالتي إلى طيف ثلاجة تذكرت أني رأيته وأنا خارج من غرفة خلع الملابس. في الطريق الرملي الأحمر الذي يلف الملعب كان شباب وكهول وسيدات وفتيات يهرولون وهم يتبادلون الأحاديث بينما أهرول في إعياء أتمنى أن أصل قبل أن أفقد الوعي. كنت أفكر أني ساكون مثار سخرية لو فقدت وعيي بعد ربع ساعة فقط من اللعب، وذلك بعد أن أكون مثار شفقة حتى يعثر عليّ أصدقائي بعد أن ينتهوا من المباراة.
وصلت إلى الثلاجة وأنا أتماسك بالكاد، فتحتها وبحثت عن عصير برتقال فلم أجد. لا أحب عصير التفاح ولا الجوافة ولا ذلك الكوكتيل العجيب، وكدت أغلق باب الثلاجة. بدا لي ذلك جنونيا عندما انتبهت لكوني أبحث عن عصير البرتقال بالتحديد وأعتقد أني وجهت لنفسي أو لمزاجي سبابا ما وأنا أمد يدي ألتقط أقرب علبة عصير وأفتحها وأشربها وأنا واقف أمام الباب المشرع للثلاجة. أتبعتها بواحدة أخرى وانتبهت ساعتها أنه عصير تفاح، ثم أخذت زجاجة مياه وكدت أنسى أن أدفع للرجل الذي كان ينظر لي مندهشا بلا كلام..
جلست على حافة حوض زهور إلى جانب الطريق أتأمل المارين من رواد النادي وأستعيد توازن رأسي تدريجيا. كنت بحاجة لمسند أريح إليه ظهري، فاستندت بيدي على الطين وسط زهور الحوض لأرخي ظهري قليلا ورفعت رأسي للسماء التي لا يخدش ظلمتها كل تلك الأضواء الكاشفة في الملاعب ولا حتى البدر التام تلك الليلة. تذكرت وقوفي بجانب سور هذا النادي مساء كل خميس قبل خمس سنين أنتظر الميكروباص وظهري يئن من الجلوس على كراسي الصالون الكلاسيكية في بيت أهل خطيبتي السابقة، بعد يوم طويل من العمل بظهر منتصب أمام الكمبيوتر لعشر ساعات على الأقل، ثم الرحلة المتعبة في المترو أو في تاكسي.
خفضت بصري وتأملت "الشورت" الذي يتسع الآن لحجم قبضة يد بجانب فخذي بينما كان ضيقا جدا عليّ قبل سنة في الإجازة الأخيرة وأنا أحتفل بالذكرى الثانية لزواجي الذي أصبح سابقا أيضا.
كان وعيي يعود ومعه المزيد من تفاصيل كل تلك الأشياء السابقة التي أحاول تجاوزها ولكنها تعود لتحتل أحلامي، وتجعلني أقوم من نومي كل صباح ناسيا كم قطعت من المسافة بعيدا عنها فأبدأ من أول الحزن.
تركت نفسي أحدق في شاب وفتاة يرتديان ملابس رياضية ويجلسان على الأرض في ركن الطريق ويتبادلان حديثا ضاحكا. شغلت نفسي عني بتخيل باقي القصة التي لن أعرفها أبدا. تخيلت باق طويل مبهج وتمنيته لهما وشعرت أني أفضل حالا.
قمت وقد دب فيّ نشاط وبعض العناد وسرت إلى حيث يلعب أصدقائي المشغولين عني بالمباراة الحماسية، جلست لبعض الوقت حتى أراد أحدهم أن يرتاح فقمت بدون تفكير وأخذت مكانه.
بدوت لي مرة أخرى بحالة جيدة، وانفردت بالمرمى مرتين، وقلت لنفسي أن ذلك بسبب ذاكرتي التي تحفظ جيدا إجادتي السابقة للتحرك بدون كرة أو بسبب زهد لاعبي الفريق المنافس في مراقبتي. في النهاية أضعت هدفين بغرابة تبدو لي أليفة هذه الأيام. مازحت زملاء الفريق أني سأضيعهم هذه الليلة. كنت خجلا من لطفهم الذي يكبح لومهم المتسق أكثر مع حماستهم للفوز.
بدأ التعب يتمكن مني ثانية ولكني اقتبست بعضا من حماستهم وأنا أواجه ذلك اللاعب الذي يرتدي فانلة زرقاء. بدا وكأنه سيمرر الكرة عن يساري ولكنه غير فجأة اتجاهه ومر من يميني. كنت مندفعا ففقدت توازني وحاولت قدماي تحاشي السقوط ولكن رأسي الذي دار فجأة جعلني أتعثر وأسقط على ذراعي اليمنى. تذكرت أني مررت من حارس مرمى في حوش الأورمان الثانوية في شتاء 1996 بنفس الطريقة فسقط وضحكت جدا وأنا أضع الكرة في المرمى الخالي وأعود بهدوء وكلتا يديّ في جيبيّ وأحدهم يحتضنني وهو يهتف: وجيه! اسم شهرتي بين زملاء فصل الفائقين الذي أطلقه عليّ حسين قنديل بسبب كفيّ اللذين كانتا دائما في جيبيّ، أو واحدة منهما على الأقل، أثناء الحصص.
ابتسمت وأنا مستلق على ظهري ما زلت على الأرض وعضضت على شفتي السفلي في مزيج من الخجل والسخرية من نفسي وفكرت أني فقدت مع بعض الوزن الكثير من التوازن. قمت بعد لحظات وأنا أتحسس مكان خدش خفيف في ذراعي وارتحت لتلميح أحدهم في مرح: "ضايع"، لطفهم الصامت كان مخجلا أكثر من اللازم، قلت له ضاحكا أنه لم ير شيئا بعد.
قضيت الليلة في بيت صديق انفصل لتوه عن رفيقة سنوات طوال. ولم يخجل كلانا من الترقرق المفاجيء للدموع في العيون أثناء الحوارات المرحة أوالاستعادة المقتضبة للذكريات. نمت عنده وحلمت بأني أتناول وجبة سمك في الإسكندرية مع كل الفريق، وأعتقد أن ذلك كان على حسابي كنوع من التعويض، رغم "أننا" فزنا في النهاية.
في الحمّام صباحا وقفت أمام المرآة أتأمل الخدش في ذراعي. آلمني عندما مسته المياه الساخنة. أصابني ضيق مفاجيء وقلت لنفسي ومزاجي يكاد يتعكر ويستعيد خدوشا أخرى: لحد إمتى هاتعمل في نفسك الحاجات الغربية دي!
ولكن تذكرت فجأة أن لاعبا واحدا من الفريق الآخر كان يأكل معنا في الحلم، هو اللاعب الذي يرتدي فانلة زرقاء وسقطتُ لما مر مني. انتبهت لابتسامتي في المرآة فضحكت وأنا أتأمل الخدش الأهون والحلم الأقل مراوغة، وقلت لنفسي: قلبك أبيض، تعيش وتاخد غيرها.